القائمة الرئيسية

الصفحات

صورة

خريف يتهادى - الفصل الثاني عشر

 12

الباب الذي يدخل منه الشك يخرج منه الحب




 

أثناء عودة عصام إلى المنزل، بعد أن غادر المطعم، شاهد بعض الصخب في الشارع يدل على انتهاء شجار أو انتهاء تجمهر منذ قليل. شاهد المكتبة التي اشترى منها الأوراق سالفا وقد حاول فتح بابها رجل تجاوز العقد السادس وتذكر كلام الحاج مصطفى صاحب السوبر ماركت عنه الأستاذ رفعت مدرس اللغة العربية، كان مدرس قدير، وخرج على المعاش وفتح المكتبة. توجه عصام إلى المكتبة وساعد الرجل في فتح بابها الذي يبدو أن به صعوبة في الفتح وقد شعر بها عصام مع أنه شاب قوي فما بال الرجل المسن، شكره الرجل على مساعدته.

شكرا يا بُني، أعطاك الله الصحة والعافية

- لا شكر على واجب، أستاذ رفعت

- يبدو أن أحدهم عرّفك المنطقة، مرحبا بك يا بُني، هل تسكن قريبا من هنا؟

- نعم اسمي عصام، وافد جديد بالمنطقة، اسكن في العمارة التي بها ماركت المصطفى

- أهلا بك في المنطقة كلها، ولكن لا تقل وافد لان الوافد هو المقيم في غير وطنه وأنت هنا مازلت داخل وطنك، ولكن قل ساكن جديد

- حسنا، ساكن جديد

- لا تؤاخذني يا بُني، فبحكم عملي معلم لغة عربية لا أستسيغ الكلمات الخاطئة

- لا عليك يا أستاذي فمنكم نتعلم. (قالها باللغة العربية الفصحى)

- ما عملك يا بُني، من الواضح أنك مثقف وذو خلق

- بارك الله فيك يا أستاذي، أنا معلم لمادتي علم النفس والفلسفة

- ما شاء الله، نظرتي في الإنسان لا تخيب، وما رأيك في المنطقة وأهلها، هل عرفتهم جميعا

- لم أتعرف إلا على الحاج مصطفى وبعض المحالّ مثل مطعم الفول والفلافل والخضار ولكن أريد أن أسألك عن بعض الصخب الذي رأيته منذ قليل

- حسنا، سوف أعرفك على بعض من أفضل سكان المنطقة فكلهم أصدقاء وأبناء وجيران أعزاء، أما عن الصخب الذي كان منذ قليل، فهو مشكلة تمر بها إحدى السيدات الفضليات. إنها السيدة كاميليا، كانت تعيش بيننا، شابة فارهة الجمال وتزوجت من أحد زملائها بالشركة التي كانت تعمل بها، يشهد لها الجميع بالخلق الحسن ولجميع عائلتها كذلك. قررت السيدة كاميليا ترك عش الزوجية نهائياً دون رجعة وحسم أمر طلاقها قضائياً، رأيت دموعها تنهمر على خدها دون إرادتها وهي تحمل في داخلها نفسا مكسورة وحُباً تقطعت أواصره بعدم التقدير والشك المرضي، كانت تسترجع شريط ذكرياتها لتسجل حكايتها المؤلمة مع الشك في دفتر أحزانها بعد أن احترق عش الزوجية الذي لم يكمل عامين بنيران الشك، حيث شك زوجها في أن علاقة ما تربطها بابن عمها، وكان يظن أنه يتعمد أن يكون موجود عند أهلها أثناء وجودها هناك، وبذلك نسج في عقله أخطبوط الشك خيوطه وألف روايات وكتب سيناريوهات في علاقتهما، إلى أن انفجر البركان بداخله ورماها بسهام شكه ومع كل سهم يقطع حبل الحب والود والاحترام والثقة بينهما، رماها بالباطل. تخيل أن ابن عمها يأتي إلى بيته في غيابه حتى أنه كان يفاجئها في غير مواعيد عودته من العمل، تحولت غيرته عليها لشدة جمالها إلى شك لا يحتمل. طلبت منه الطلاق على الفور وكذلك أهلها أصروا على ذلك. أصبح الطلاق واقعاً لا مفر منه. علم الزوج المريض أن ابن عم زوجته سافر إلى بلد عربي منذ آخر مرة رآه فيها عند أهل زوجته وأنه لم يكن موجودا في البلد كلها حين اتهمها بالخيانة وحين استولى عليه سوء الظن، ليتحسر بعدها الزوج ويتذوق مرارة الندم ولكن بعد فوات الأوان. ولا تسألني لماذا لم يسع أحدا للصلح بينهم لان كل الجراح تتداوى إلا جرح الشرف والكرامة؛ وما رأيته من صخب ليس إلا محاولة من الزوج في استمالة زوجته ولكنها رفضت استقباله فهاج كالمجنون يريد الصعود إليها لولا أن الناس منعته وصرفوه. قصة كاميليا هي نموذج لقصص واقعية مختلفة يعيش ضحاياها بيننا في المجتمع بسبب مرض الشك القاتل الذي يهدم كل علاقة طيبة وجميلة، ليجعلها في طي النسيان لكن بشيء من المرارة والألم.

- إنها مأساة بالفعل أن يُهدم بيت جميل بسبب الشك المرضي، أن مجتمعنا مليء بهذه الحوادث للأسف لقلة العلم وقلة اهتمام الأهل بزرع بذرة الضمير والأخلاق داخل الطفل منذ صغره.

- كلامك جميل يا عصام، ليتك تحاول أن تجمع أهل المنطقة وتقنعهم بضرورة عمل مركزا تعليميا للأخلاق، نعم للأخلاق، نعلم الأطفال فيه معنى الحب والاحترام والرحمة والشفقة والبر والإحسان وكل المعاني الجميلة التي نفتقدها في مجتمعنا

- أنها فكرة جيدة، وبالفعل لقد قابلت أحد مرشحي الانتخابات وكان قد أخبر صديق لي بأنه يريد أن يقوم بعمل ندوات في مراكز الشباب والأندية الاجتماعية والمدارس لتوعية الناس بأمور كثيرة وصديقي اقترح عليه أن نبدأ بأمر يشغل الكثير من الناس في الوقت الحاضر وهو موضوع التنمر

- نعم أنه موضوع خطير، إذن فلتبدأ بالتنمر ثم باقي الأخلاقيات وفكرة الندوات أفضل من مركز ثابت، فإن تذهب إلى الناس بعلمك أفضل من أن تنتظرهم يأتون إليك. لنفعل الاثنين، ندوات لتوعية ومركزا يقصده كل صاحب مشكلة.

- أريد أيضا أن اجلس مع بعض رجال المنطقة ممن تتوسم فيهم خيرا، أريد أن نحل بعض مشكلات المنطقة وأولها مشكلة نصر، ذلك الشاب المغلوب على أمره، فلو استمر تنمر الناس به من الممكن أن يتحول إلى مجرم أو ينزوي وينتحر.

 

- حسنا، سوف أتواصل مع عدد لا بأس به ممن يهتم بأمر الحي والمنطقة وسيكون خيرا بإذن الله، أعطني يومين وسوف أجمعهم لاجتماع عندي في البيت وأخبرك به.

- حسنا يا أستاذي وهذا رقم هاتفي (يعطيه كارت مدون به، الأستاذ عصام الدين حسين فضل، معلم مادة علم النفس والفلسفة، ثم رقم الهاتف) ونتواصل يوميا بإذن الله، فكلما أراك في المكتبة سأمر للاطمئنان عليك والاستزادة من فيض علمك.

- يارك الله فيك يا بُني، وأنا تسعدني رؤيتك دوما

انصرف عصام وفي ذهنه يدور تصوره عن المرحلة القادمة، ويتعجب من طلب الأستاذ رفعت وتوافقه مع طلب مرشح الانتخابات حاتم الهمشري في إقامة ندوات لتوعية الناس وتثقيفهم اجتماعيا وأخلاقيا. اقترب من المنزل ولم يكد يصل إلى ماركت المصطفى حتى خرج الحاج مصطفى ليصافحه ثم قال له:

- لماذا أراك اليوم متجهما، أنا أستبشر بابتسامتك

- أسعدك الله، ليست الدنيا دائما صندوق موسيقى، وكما تقول الحكمة كما تدور عقارب الساعة حول جميع الأرقام، تدور الدنيا حول جميع الظروف.

- يا بُني خذها حكمة من رجل أكبر منك سنا "إن الحياة لحظة فاملأها فرحة و أكسوها بِالأمل وأطربها بِالضحك، وجرّدها من الحزن فَلا شيء يستحق.

- الله، أنها فعلا حكمة جميلة يا حكيم الطوابق

ضحك الحاج مصطفى كما ضحك عصام ثم اتجه إلى داخل العمارة ليصعد إلى شقته.

 

التنقل السريع